فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



من هنا يتضح أن الماء ضروري لبناء أجساد كل الكائنات الحية، كما أنه ضروري لمساعدتها على الاستمرار في القيام بمختلف نشاطاتها ومظاهرها الحيوية.
رابعا: أن الماء أعظم مذيب يعرفه الإنسان ولذلك يشكل الوسط المذيب للعديد من العناصر والمركبات التي يقوم بنقلها من تربة وصخور الأرض إلى مختلف أجزاء النبات، ومن الطعام إلى مختلف أجزاء جسم كل من الإنسان والحيوان. وذلك بما له من درجة عالية من اللزوجة والتوتر السطحي، وخاصية شعرية فائقة..
خامسا: أن الماء يشكل العنصر الأساسي في بناء أجساد جميع الكائنات الحية، فقد ثبت بالتحليل أن نسبة الماء في جسم الإنسان تتراوح بين حوالي 71% في الإنسان البالغ، و93% في الجنين ذي الأشهر المحدودة، بينما يكون الماء أكثر من 80% من تركيب دم الإنسان، وأكثر من 90% من أجساد العديد من النباتات والحيوانات.
سادسا: أن جميع الأنشطة الحياتية وتفاعلاتها المتعددة من التغذية إلى الإخراج ومن النمو إلى التكاثر لا تتم في غيبة الماء بدءا من التمثيل الغذائي، وتبادل المحاليل بين الخلايا وبعضها البعض، وبينها وبين المسافات الفاصلة بينها، وذلك بواسطة الخاصية الشعرية للمحاليل المائية التي تعمل من خلال جدر الخلايا، وانتهاء ببناء الخلايا والأنسجة الجديدة مما يعين على النمو والتكاثر، وقبل ذلك وبعده التخلص من سموم الجسم وفضلاته عن طريق مختلف صور الإفرازات والإخراجات.
هذا بالإضافة إلى ما يقوم به الماء من أدوار أساسية في عمليات بلع الطعام، وهضمه، وتمثيله، ونقله، وتوزيعه، ونقل كل من الفيتامينات، والهرمونات، وعناصر المناعة، ونقل الأوكسجين إلى جميع أجزاء الجسم، وإخراج السموم والنفايات إلى خارج الجسم، وحفظ حرارة الجسم ورطوبته وما يقدم لذلك أو يترتب عليه من العمليات الحيوية، وعلي ذلك فلا يمكن للحياة أن تقوم بغير الماء أبدا، فمن الكائنات الحية ما يمكنه الاستغناء كلية عن أوكسجين الهواء، ولَكِن لا يوجد كائن حي واحد يمكنه الاستغناء عن الماء كلية، فبالإضافة إلى منافعه العديدة وفي مقدمتها أنه منظم لدرجة حرارة الجسم، بما له من سعة حرارية كبيرة، ومنظم لضغط الدم، ولدرجات الحموضة، فإن في نقصه تعطش الخلايا ويضطرب عملها، وتتيبس الأنسجة، وتتلاصق المفاصل، ويتجلط الدم ويتخثر، ويوشك الكائن الحي على الهلاك ولذلك فإن أعراض نقص الماء بالجسم الحي خطيرة للغاية، فإذا فقد الإنسان على سبيل المثال 1% من ماء جسده أحس بالظمأ، وإذا ارتفعت نسبة فقد الماء إلى 5% جف حلقه ولسانه، وصعب نطقه، وتغضن جلده، وأصيب بانهيار تام، فإذا زادت النسبة المفقودة على 10% أشرف الإنسان على الهلاك بالموت.
وفي المقابل فإن الزيادة في نسبة الماء بجسم الكائن الحي على القدر المناسب له قد تقتله، فالزيادة في نسبة الماء بجسم الإنسان قد تسبب الغثيان، والضعف العام وتنتهي بالغيبوبة التي تفضي إلى الموت.
سابعا: يغطي الماء في زماننا الراهن حوالي 71% من مساحة سطح الأرض المقدرة بنحو (510) ملايين كيلو متر مربع، بينما تشغل مساحة اليابسة حوالي 29% من تلك المساحة.
والأرض هي أغني كواكب المجموعة الشمسية بالماء الذي تقدر كميته على السطح بنحو 1، 4 بليون كيلو متر مكعب، بالإضافة إلى مخزون يقدر بمئات أضعاف هذا الرقم في نطاق الضعف الأرضي، يخرجه لنا ربنا-تبارك وتعالى- بقدر معلوم مع ثورات البراكين.
ويتوزع أغلب الماء على سطح الأرض حوالي 97، 22% في البحار والمحيطات التي تغطي مساحة تزيد على 362 مليون كيلو متر مربع، بمتوسط عمق يقدر بحوالي 3800 مترا مما يعطي لبحار ومحيطات الأرض حجما يزيد قليلا على (1375) مليون كيلو متر مكعب من الماء المالح.
هذا بالإضافة إلى كم من الجليد يغطي قطبي الأرض، وقمم الجبال بسمك يصل إلى أربعة كيلو مترات في القطب الجنوبي وإلى 3800 متر في القطب الشمالي، ويقدركم الماء في هذا الغطاء الجليدي بحوالي (2، 15%) من مجموع الماء على سطح الأرض، والنسبة الباقية وتقدر بحوالي (0، 63%) من مجموع ماء الأرض تمثل أغلبها بالمخزون المائي في صخور قشرة الأرض ونسبته 0، 613% ويمثل الباقي (وتقدر نسبته بحوالي 0، 017%) بمخزون البحيرات الداخلية، وكم الماء الجاري في الأنهار والجداول، ورطوبة كل من الجو والتربة، التي تعين الأرض على الإنبات، وتلعب دورا مهما في تكوين السحب التي تدفع عن الأرض جزءا كبيرا من حرارة وأشعات الشمس بالنهار، كما ترد إلى الأرض معظم الدفء الذي تشعه صخورها إلى الجو بمجرد غياب الشمس.
وهذا التوزيع المعجز للماء على سطح الأرض لعب- ولا يزال يلعب- دورا أساسيا في تهيئة مناخ الأرض لاستقبال الحياة، فلولا هذه المساحات المائية والجليدية الشاسعة لاستحالت الحياة التي نعرفها على سطح الأرض، لأن درجة حرارة نطاق المناخ كان من الممكن أن تصل إلى أكثر من مائة درجة مئوية بالنهار، وأن تنخفض إلى ما دون المائة درجة تحت الصفر المئوي بالليل، وهو تباين لا تقوي عليه كل صور الحياة المعروفة لنا، ولَكِن شاءت إرادة الله ورحمته أن تحمينا من هذه المخاطر بواسطة الغلاف المائي للأرض الذي ينظم درجة حرارتها، وحرارة الهواء المحيط بها في نطاق المناخ، وذلك بتكرار عمليات التبخير بكميات كبيرة من الماء تقدر سنويا بحوالي 380، 000 كيلو متر مكعب، وتكثيف هذا الكم الهائل من بخار الماء على هيئات السحاب والضباب والندي، وإنزاله إلى الأرض على هيئة المطر، والثلج والبرد، وما يصاحب ذلك من رعد وبرق، وما ينزل معهما من مركبات النيتروجين وغيره من العناصر التي تثري تربة الأرض بما يحتاجه النبات من مركبات، وما يصاحب كل ذلك من إحياء للأرض بعد موتها، بتقدير من الخالق البارئ المصور الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي الأعلى:2 و3.
ثامنا: الماء يساعد على حفظ درجات الحرارة في البحار والمحيطات في الحدود التي تعين الحياة البحرية على النشاط، وذلك باختلاط التيارات البحرية الدافئة والباردة، وبامتصاص جزء كبير من آشعة الشمس ومما تنتجه الأحياء البحرية من حرارة نتيجة لمختلف أنشطتها الحيوية، والعمل على إعادة توزيعها، وكذلك توزيع الحرارة الناتجة عن ثورات البراكين فوق قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان أعداد من بحارها، وقبل ذلك وبعده وقاية الأحياء البحرية من مختلف التقلبات الجوية خاصة عندما تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي، وهنا يلحظ كل عاقل دور القدرة المبدعة في الخلق والتي أعطت الماء عددا من الخصائص الفيزيائية والكيميائية التي لا تتوافر لغيره من العناصر ومركباتها، وأبرزها قلة كثافة الماء عند تجمده مما يضطره إلى الطفو على سطح مياه البحار والمحيطات في المناطق الباردة والمتجمدة بدلا من الغوص إلى قيعانها والقضاء على مختلف صور الحياة فيها، ويقوم الجليد الطافي على سطح الماء بدور العازل بين درجات حرارة الهواء الشديد البرودة من فوقه، والماء الدافئ نسبيا من تحته وما فيه من حياة زاخرة.
هذا قليل من كثير مما حبا الله-تعالى- به الماء من صفات طبيعية وكيميائية فريدة، التي من أهمها أيضا قدرته الفائقة على إذابة أعداد كبيرة من المواد الصلبة والسائلة والغازية، وبناؤه الجزيئي ذو القطبية المزدوجة والمقاوم للتحلل والتأين، ودرجتا التجمد والغليان المتميزتان، والحرارة النوعية المرتفعة، والحرارة الكامنة العالية، واللزوجة والتوتر السطحي الفائقان، وقلة كثافته عند التجمد، وقدرته الكبيرة على الأكسدة والاختزال، وعلي التفاعل مع العديد من المركبات الكيميائية، وعلي تصديع التربة وشقها لمساعدتها على الإنبات، وبذلك هيأه الله سبحانه وتعالى للقيام بدوره الرئيسي في أجساد كل أنواع الحياة النباتية والحيوانية والإنسية مما يعتبر معجزة كبري من معجزات الخالق سبحانه وتعالى الذي أنزل في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} وجاء ذلك مباشرة بعد تقرير خلق السماوات والأرض بعملية فتق الرتق وهي من أعظم معجزات الخالق سبحانه في إبداعه للكون، والخطاب في مطلع الآية الكريمة موجه للذين كفروا، ولذلك ختمت بهذا الاستفهام التقرير، التقريعي، التوبيخي: أفلا يؤمنون.
وهذه حقائق لم يصل إليها علم الإنسان الكسبي إلا في منتصف القرن العشرين، وورودها في كتاب الله بهذه الدقة العلمية المبهرة، والإيجاز المعجز، مع الشمول والإحاطة لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، ويشهد بالنبوة والرسالة للرسول والنبي الخاتم الذي تلقاه فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلي آله وصحبه، ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. اهـ.

.تفسير الآيات (32- 35):

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وما جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما دلهم بالسماوات والأرض على عظمته، ثم فصل بعض ما في الأرض لملابستهم له، وخص الجبال لكثرتها في بلادهم، أتبعه السماء فقال: {وجعلنا} أي بعظمتنا {السماء} وأفردها بإرادة الجنس لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا الدنيا ولأن الحفظ للشيء الواحد أتقن {سقفًا} أي للأرض لا فرق بينها وبين ما يعهد من السقوف إلا أن ما يعهد لا يسقط منه إلا ما يضر، وهذه مشحونة بالمنافع فأكثر ما ينزل منها ما لا غنى للناس عنه من الآت الضياء وعلامات الاهتداء والزينة التي لا يقدر قدرها.
ولما كان ما يعرفون من السقوف على صغرها لا تثبت إلا بالعمد، ويتمكن منه المفسدون، وتحتاج كل قليل إلى إصلاح وتعهد، بين أن هذا السقف على سعته وعلوه على غير ذلك فقال: {محفوظًا} أي عن السقوط بالقدرة وعن الشياطين بالشهب، فذكّر باعتبار السقف، وأشار إلى كثرة ما حوى من الآيات مؤنثًا باعتبار السماء أو العدد الدال عليه الجنس، لأن العدد أولى بالدلالة على كثرة الآيات والنجوم مفرقة في الكل فقال: {وهم} أي أكثر الناس {عن آياتها} أي من الكواكب الكبار والصغار، والرياح والأمطار، وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار، أي الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال، من الجلال والجمال {معرضون} لا يتفكرون فيما فيها من التسيير والتدبير بالمطالع والمغارب والترتيب القويم الدال على الحساب الدائر عليه سائر المنافع.
ولما ذكر السماء، ذكر ما ينشاء عنها فقال: {وهو} أي لا غيره {الذي خلق الّيل والنهار} ثم أتبعهما آيتيهما فقال: {والشمس} التي هي آية النهار وبها وجوده {والقمر} الذي هو آية الليل.
ولما ذكر أعظم آياتها فأفهم بقية الكواكب، استأنف لمن كأنه قال: هل هي كلها في سماء واحدة؟: {كل} أي من ذلك {في فلك} فكأنه قيل: ماذا تصنع؟ فقيل تغليبًا لضمير العقلاء... ونقلهم إليها: {يسبحون} أي كل واحد يسبح في الفلك الذي جعل به.
ولما ذكر الصارم البتار، للأعمار الطوال والقصار، من الليل والنهار، كان كأنه قيل: فيفنيان كل شديد، ويبليان كل جديد، فعطف عليه قوله: {وما جعلنا} أي بما لنا منح العظمة التي اقتضت تفردنا بالبقاء {لبشر} وحقق عدم هذا الجعل بإثبات الجار فقال: {من قبلك الخلد} ناظرًا إلى قوله: {وما كانوا خالدين} بعد قوله: {هل هذا إلا بشر مثلكم} وهذا من أقوى الأدلة على أن الخضر عليه السلام مات، ويجاب بأن الحياة الطويلة ليست خلدًا كما في حق عيسى عليه السلام، لَكِن قوله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد اليوم» وقوله:«لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض اليوم أحد» وقوله: «وددنا أن موسى عليه السلام صبر فقص علينا من أمرهما» في أمثال ذلك، يدل على موته دلالة لا تقبل ادعاء حياته بعدها إلا بأظهر منه.
ولما كان قولهم {بل هو شاعر} [الأنبياء: 5] مشيرًا إلى أنهم قالوا نتربص به ريب المنون كما اتفق لغيره من الشعراء، وكان ينبغي أن لا ينتظر أحد لآخر من الأذى إلا ما يتحقق سلامته هو منه، توجه الإنكار عليهم والتسلية له بمنع شماتتهم في قوله: {أفائن} أي أيتمنون موتك فإن {مت فهم} أي خاصة {الخالدون} فالمنكر تقدير خلودهم على تقدير موته الموجب لإنكار تمنيهم لموته، فحق الهمزة دخولها على الجزاء، وهو فهم، وإنما قارنت الشرط لأن الاستفهام له الصدر.
ولما تم ذلك، أنتج قطعًا: {كل نفس} أي منكم ومن غيركم {ذائقة الموت} أي فلا يفرح أحد ولا يحزن بموت أحد، بل يشتغل بما يهمه، وإليه الإشارة بقوله: {ونبلوكم} أي نعاملكم معاملة المبتلي المختبر المظهر في عالم الشهادة الشاكر والصابر والمؤمن والكافر كما هو عندنا في علام الغيب بأن نخالطكم {بالشر} الذي هو طبع النفوس، فهي أسرع شيء إليه، فلا ينجو منه إلا من أخلصناه لنا {والخير} مخالطة كبيرة، وأكد البلاء بمصدر من معناه مقرون بالهاء تعظيمًا له فقال: {فتنة} أي كما يفتن الذهب إذا أريدت تصفيته بمخالطة النار له، على حالة عظيمة محيلة مميلة لكم لا يثبت لها إلا الموفق {وإلينا} أي بعد الموت لا إلى غيرنا {ترجعون} للجزاء حيث لا حكم لأحد أصلًا لا ظاهرًا ولا باطنًا كما هذه الدار بنفوذ الحكم فلا يكون إلا ما نريد فاشتغلوا بما ينجيكم منا، ولا تلتفتوا إلى غيره، فإن الأمر صعب، وجدوا فإن الحال جد. اهـ.